قراءة في كتاب منهاج البلغاء وسراج الادباء لأبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني ( ت 684 ه )



منهاج البلغاء وسراج الادباء
لأبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني ( ت 684 ه )
يعد حازم القرطاجني أحد أئمة المالكية في مُرْسِية؛ فقد جمع إلى جانب العلوم الفقهية ؛ النحو على طريقة أهل البصرة؛ كما كان محدِّثا؛ راوية للاخبار والآداب؛ شاعرا نابها؛ كذلك كان له اهتمام بدراسة المنطق والخطابة والشعر، فكان أن قرأ مصنفات ابن رشد والفارابي وابن سينا، إلى جانب اطلاعه على الثقافات اليونانية التي يستطيع قارئ كتابه أن يحدد معالم هذه الثقافة بشكل واضح وجلي .
فنحن إذا أمام شخصية متميزة استطاعت أن تكون مرجعا في العربية والعروض والبلاغة والنقد فضلا عن كون هذه الشخصية تمارس التجربة الشعرية؛ فقد عُرِف عن حازم انه كان شاعرا كبيرا، وله قصائد مدحية في بعض امراء الدولة الموحدية في الأندلس إلى جانب قصيدته المشهورة ( المقصورة ) التي عارض فيها مقصورة ابن دريد وبلغ تعداد أبياتها ستة وألف بيت. ترك لنا حازم عددا من المصنفات التي تتصل بعلوم العربية والبلاغة والعروض بعضها مما لم يصل إلينا وبعضها ما نحن بصدد دراسته وهو كتاب
منهاج البلغاء وسراج الادباء:
 يشير حازم في مقدمة كتابه فضلا عن مواطن كثيرة منه إلى انه أراد من تأليفه لهذا الكتاب أن ينهض بالشعر العربي في عصره من الضعف الذي تردى إليه؛ فكان عليه أن يوضح المنهاج للبلغاء؛ ويضع السراج
هذا إلى جانب استخدامه في تقسيمه للكتاب إلى مصطلحات تدل على العنوان وهي على الترتيب الذي استخدمه بعناية فائقة : منهج _ مَعْلَم _ مَعْرَف _ إضاءة _ تنوير _ مَأَمَّ
وغير خافٍ ان المنهج والمعلم والمعرف والمأم إنما يرتبط بفكرة الجزء الأول من العنوان ( منهاج ) في حين ترتبط الإضاءة والتنوير بفكرة الجزء الثاني من العنوان ( السراج ).
حاول حازم في كتابه أو ( منهاجه ) أن يكون حريصا على أن يبين للدارسين اسس الجودة الشعرية عند العرب مشفوعة بالقوانين البلاغية المستندة إلى الأصول المنطقية والحِكْمِية؛ وكأنه يسعى أن يعلِّم متعاطي الصنعة الشعرية كيف ينشيء شعرا جيدا . فالمنهاج يصور لنا حازما شديد الضيق بشعراء زمانه والزمان الذي سبقه بقرنين ولاسيما شعراء المشرق الذين يقول عنهم: (( فلم يوجد فيهم على طول هذه المدة مَنْ نحا نحو الفحول، ولا مَنْ ذهب مذهبهم في تأصيل مبادئ الكلام وإحكام وضعه وانتقاء مواده التي يجب نحته منها. فخرجوا بذلك عن مَهْيَع الشعر ودخلوا في مَحْض التَّكلُم ))؛ هذا أولا .
أما ثانيا : فان حازم رام أيضا إصلاح الأذواق المنتجة للشعر والمتَّلقية له في عصره وذلك من خلال ردِّها إلى القوانين البلاغية الصحيحة لتميز بها ما طاب من الكلام مما خَبُثَ ؛ وهذا ما يصرح به في قوله : (( وإنَّما احتجتُ إلى هذا؛ لأن الطباع قد اختَّلت والأفكار قد قصرَّت، والعناية بهذهِ الصناعة قد قلَّت، وتحسين كل من المدَّعين صناعة الشعر ظنّه بطبعه، وظنَّهُ انه لايحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع، وبنيته على أنَّ كل كلام مقفى موزون شعرٌ جهالةً منه أن الطباع قد تداخلها من الاختلال والفساد أضعافُ ما تداخل الألسنة من اللحن؛ فهي تستجيد الغثَّ وتستغثُّ الجيد من الكلام ما لم تُقمع بردِّها إلى اعتبار الكلام بالقوانين البلاغية، فيُعلم بذلك ما يُحسن وما لا يحسُن )) .
منهج الكتاب ومادته :
يتألف ( المنهاج ) من أربعة أقسام رئيسة؛ ضاع أولها وإلى يومنا هذا وقد جعل كل قسم من الأقسام الباقية في أربعة فصول أطلق عليها مناهج واحدها منهج
_ وداخل كل ( منهج ) يفصّل حازم القضايا باستخدام عناوين جزئية تأخذ مصطلحات : مَعْلَم، مَعْرَف، وفي استخدام ( المَعْلَم ) يقول حازم : (( مَعْلَمٌ دالٌ على طريق العِلْم بكذا ....))
وفي استخدام ( المَعْرَف ) يقول : (( مَعْرَف دال على طرق المعرفة بكذا ))
_ وداخل كل ( معلم ) و ( معرف ) يتخدم عناوين جزئية تحمل مصطلحات : إضاءة _ تنوير .
_ أما ( المأم ) فهو الذي يلخص فيه القانون البلاغي المستفاد مما عرضه في المعلم والمعرف؛ ويقول في استخدامه : (( مَأَمٌّ من مذاهب البلاغة المستشرفة بهذا المعلم .....))
_ يشير محقق الكتاب ( محمد الحبيب بن الخوجة ) إلى ان القسم الأول من الكتاب_ وهو القسم المفقود_ ربما يتعلق بقضايا تتصل (( بالقول وأجزائه، والأداء وطرقه، والأثر الذي يحصل للسامعين عند صدور الكلام ))
_ أما القسم الثاني من الكتاب فموضوعه المعاني الشعرية والقوانين البلاغية التي تُعرف بها أحوالها من جهة ملاءمتها للنفوس أو منافرتها لها .
_ على حين جاء القسم الثالث ليتناول موضوع النُّظم والقوانين البلاغية التي تُعرف بها أحواله من جهة ملاءمتها للنفوس أو منافرتها لها .
_  أما القسم الرابع فموضوعه الطرق الشعرية، وما تنقسم إليه وما يُنحى بها نحوه من الأساليب، والتعريف بمآخذ الشعراء في ذلك كله، والقوانين البلاغية التي تُعرف بها أحوال الكلام المخَّيل المقفى الموزون في ذلك كله من جهة ملاءمته للنفوس أو منافرتها لها .
مما تقدم يتضح ان الاقسام الثلاثة التي وصلت إلينا إنما تهتم بالوقوف عن المعاني الشعرية، والمباني الشعرية، والأساليب الشعرية ؛ وهذا ما سنتاوله بشيء من التفصيل .
المعاني الشعرية :
يعرّف حازم المعاني عامة؛ فيقول : (( المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان )) ومن هنا كان للمعاني حقائق وصور.
أما الحقائق : فهي أعيان الأشياء الموجودة في العالم الخارجي، أما صور المعاني فلها ثلاثة أنواع من الوجود :
1-  وجود تمثله الصور الذهنية لأشياء العالم الخارجي بعد إدراكها (( كلُّ شيء له وجود خارج الذهن فإنَّه إذا أُدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أُدرِك منه )).
2-  وجود تمثله دلالات الألفاظ على هذه الصوّر الذهنية (( فإذا عُبِّر عن تلك الصور الذهنية الحاصلة عن الادراك أقام اللفظ المعَّرُ به هيئة تلك الصور الذهنية في افهام السامعين واذهانهم )).
3-  وجود تمثله دلالة الكتابة على الألفاظ الدالة على الصور الذهنية(( فاذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ مَنْ لم يتهيأ له سمعُها من المتلفظ بها، صارت رسوم الخط تقيم في الافهام هيئات الالفاظ فتقوم بها في الأذهان صور المعاني )).
أما ما يتعلق بالمعاني الشعرية فيذهب حازم إلى ان الشعراء ينبغي أن يختاروا من المعاني ما فُطِرت النفوس على استلذاذه أو التألم منه، أو حصل لها ذلك بالاعتياد، ويتضحذلك من خلال جعل حازم المعاني الشعرية التي تتولى الأقاويل الشعرية تخييلها وتقديمها للادراك أربعة أنواع من جهة معرفتها والتأثر لها :
1-  معانٍ يعرفها جمهور مَنْ يفهم لغة هذا الشعر ويتأثر لها .
2-  معانٍ يعرفها ولا يتأثر لها .
3-  معانٍ يتأثر لها عندما يعرفها .
4-  معانٍ لا يعرفها ولا يتأثر لها عندما يعرفها .
وأحق هذه الأنواع بان يستخدم في الشعر : ما عرفه الجمهور وتأثر له ، وما كان مستعدا لان يتأثر له إذا عرفه، لذلك أطلق على هذه المعاني ( المتصورات الأصلية ) أما باقي الأنواع فاطلق عليها ( المتصورات الدخيلة )؛ وفي ذلك يقول: (( فالمتصورات التي في فطرة النفوس ومعتقداتها العادية أن تجد لها فرحا أو ترحا أو شجوا هي التي ينبغي أن نسميها المتصورات الأصلية، وما لم يوجد لها ذلك في النفوس ولا معتقداتها العادية فهي المتصورات الدخيلة ..... ))
أما فيما يتعلق بتقسيم المعاني الشعرية تبعا لارتباطها بقصد الشاعر وغرض الشعر؛ فان حازم يرى ان للمعاني الشعرية ضربين :
_ المعاني الأُوّل : وهي التي يستلزمها غرضُ الشعر ويُعتَمد ايرادها .
_ المعاني الثواني : وهي التي لا يستلزمها غرض الشعر ولا يُعتمد ايرادها في الكلام، بل تحاكى بها المعاني الأُوّل لتكون أمثلة لها واستدلالات عليها .
أما اقتباس المعاني الشعرية فيحدد حازم لذلط طريقين :
1-  الخيال : ويرى حازم انه قادر على أن يركب صورا للأشياء على غرار ما هو موجود في الواقع، أو على غرار ما يمكن أن يكون موجودا .
2-  كلام الآخرين : ويقصد به اعتماد الشاعر على معاني الآخرين في النظم والنثر أو التاريخ أو الحديث أو المثَل، ويتصرف الشاعر في معاني هذا الطريق ضروبا من التصرف .

غموض المعاني الشعرية :
يشير حازم إلى ان الغموض في المعاني الشعرية يمكن أن يكون في :
1-  مصدر المعاني الشعرية أنفسها .
2-  مصدر الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى.
3-  مصدر الألفاظ والمعاني معا .
أما أنماط الغموض التي مصدرها المعاني أنفسها؛ فيحددها لنا حازم على هذا النحو :
1-  أن يكون المعنى في نفسه دقيقا بعيد الغور .
2-  أن يكون المعنى مبنيا على معنى سابق في الكلام يبعد موضعه أو ينشغل عنه ذهن المتلقي فيصعب عليه ادراك المعنى المراد من المعنى اللاحق .
3-  أن يتضمن المعنى معنىً علميا أو خبرا تاريخيا أو مُحالا به على ذلك، فيتوقف ادراك المعنى على معرفة ذلك المضمَّن العلمي أو الخبري .
4-  أن يتضمن المعنى الشعري إشارة إلى مثل أو بيت أو كلام سابق؛ مما يجعل ادراكه متوقفا على ذلك المثل أو البيت أو الكلام السابق .
5-  أن يكون بعض ما يتضمنه المعنى محتملا لعددٍ من التأويلات .
أما أنماط الغموض التي مصدرها الألفاظ والعبارات فتتمثل عند حازم فيما يأتي :
1-  أن يكون اللفظ حوشيا أو غريبا أو مشتركا؛ فينشأ عن ذلك عدم معرفة دلالته؛ أو توهم دلالته على معنى آخر له غير مُرادٍ في السياق الذي ورد فيه .
2-  أن يقع في الكلام تقديم وتأخير .
3-  أن يتخالف وضع الاسناد فيغدو الكلام مقلوبا .
4-  أن يقع بين بعض العبارة وما يرجع إليها فَصْلٌ بقافية أو سجْع فيخفى موطن الربط بين الكلامين .
5-  أن تطول العبارة كثيرا فيتأخر بعض اجزائها عمَّا يستند إليه، فلا يشعر باستناده إليه وارتباطه به، ويكون الأمر على اشدّه حين يكثر في الكلام الاعتراضات والفصول.
6-  فرط إيجاز العبارة بقصرٍ أو حَذفٍ .
7-  أن تورد العبارة التي يُراد انفصال بعض اجزائها عن بعض في صورة المتصلة أو أن يُورد المتصل في صورة المنفصل .
وعن هذا كله يقول حازم : (( فكل معنى غامض وعبارة مستغلقة فغموضه واستغلاق عبارته راجعان إلى بعض هذه الوجوه المعنوية أو العبارية أو إليهما معا أو إلى ما ناسبهما وجرى مجراهما ))
المباني الشعرية ( الطبع الشعري ) :
وهذا القسم الثالث من كتابه؛ حيث يعد حازم ( الطبع الشعري ) آلة النظم؛ ذاكرا تعريفا للطبع يكاد يختلف عما الفه التراث النقدي والبلاغي للعرب ؛ حيث يقول : (( الطَّبْعُ هو استكمال للنفس في فهم اسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والاغراض التي من شأن الكلام الشعري أن يُنحى به نحوها؛ فإذا أحاطت بذلك علما قويت على صوغ الكلام بحسبه عملا )). فحازم يجعل من الطبع ضربا من الخبرة والعلم الذي يتحول بالنظم إلى عمل .
ويحدد حازم عناصر العلم الشعري أو الخبرة أو ( الطبع ) بعشرٍ مما يسميه ( القوى الفكرية ) و        ( الاهتداءات الخاطرية ) التي تتفاوت فيها أفكار الشعراء ؛ وتتمثل عنده فيما يأتي :
1-  قوة الناظم على إظهار ما لا يجري على السَّجية ولا يصدر عن قريحة بمظهر ما يجري على السَّجية ويصدر عن قريحة، ويعني هذا قدرة الناظم على الاتيان بنظم لا تبدو عليه آثار التكلف والافتعال .
2-  قوة الناظم على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها والمعاني الواقعة في تلك المقاصد؛ لتحديد القوافي المناسبة، وبناء فصول القصائد على ما يجب .
3-  قوة الناظم على تصور صورة مثلى للقصيدة، والاحاطة باسباب انشائها على أفضل وجه من ((جهة بعض المعاني والأبيات والفصول من بعض بالنظر إلى صدر القصيدة ومنعطفها من نسيبٍ إلى مدحٍ وبالنظر إلى ما يُجعل خاتمتها إن كانت محتاجة إلى شيء معين من ذلك )).
4-  قوة الناظم على تصور المعاني وتخيّلها بالشعور بها والاتيان بها من كل جهاتها .
5-  قوة الناظم على إدراك الوجوه التي يتحقق بها التناسب والتقارب بين المعاني وايقاع تلك التناسبات والتقاربات بينها .
6-  قوة الناظم على التهدِّي إلى العبارات الجيدة الوضع والدلالة على تلك المعاني .
7-  قوة الناظم على ضبط تلك العبارات في قوالب وزنية، وبناء مباديها على نهاياتها ونهاياتها على مباديها .
8-  قوة الناظم على التخلُّص من غرضٍ إلى غرض والتوصل به إليه .
9-  قوة الناظم على وصل الفصول بعضها ببعض، ووصل الأبيات بعضها ببعض على نحو ترتاح له أنفس المتلقين .
10-                    قوة الناظم على تمييز حسن الكلام من قبيحه بالنسبة إلى الكلام نفسه وإلى الموضع الذي يوقع فيه .
وعلى أساس حظ الشاعر من هذه القوى تكون مرتبة الشاعر أو طبقته، ذلك ان حازم قسم الشعراء على وفق هذه القوى الى ثلاث طبقات .
ارتباط الأغراض الشعرية بالأوزان :
حاول حازم في منهاجه أن يعمد إلى إقامة ضرب من الترابط بين أوزان شعرية خاصة وأغراض خاصة من أغراض الشعر؛ إنطلاقا من ان بعض الأوزان أكثر مناسبة لبعض الأغراض وأقدر على تخييلها للنفوس .
وهذا أمر عرفه الشعر اليوناني الذي يلتزم فيه الشاعربالربط بين غرض خاص ووزن يليق به؛ وفي هذا يصرح حازم : (( وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزنا يليق به ولا تتعداه فيه إلى غيره )).
غير ان حازم حاول أن يصوغ تصوره للأمر في قالب الاستدلال المنطقي عندما جعل خاصيات محددة لكل وزن من أوزان الشعر الستة عشر وفي المقابل هناك خاصيات سمعية أو صفات تخص كل وزن من الأوزان؛ كارصانة أو الطيش، والسَّباطة والسهولة، أو الجعودةوالتوعر ، والبهاء أو الحقارة ؛ وفي هذا يقول : ((وأوزان الشعر منها سبط ومنها جعد ومنها لين ومنها شديد ، ومنها متوسطات بين السباطة والجعودة ، وبين الشدة واللين وهي أحسنها .....)).
ليخرج بنتيجة مؤداها: وجوب محاكاة كل غرض من أغراض الشعراء بما يناسبه ويخيّله للمتلقي من أوزان الشعر ، وهذا ما يصرح به بشكل واضح لا لبس فيه : (( ولما كانت أغراض الشعر شتى ، وكان منها ما يُقصد به الجدُّ والرَّصانة، وما يُقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يُقصد به البهاء والتفخيم ....وجب أن تحاكى تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخّيلها للنفوس، فاذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية الرصينة، وإذا قصد في موضع قصدا هزليا استخفافيا وقصد تحقير شيء أـو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد )).
التخييل والمحاكاة :
لعلها تعد من ابرز الفكر النقدية التي عالجها حازم في ( المنهاج ) ويتضح الأثر اليوناني من خلال ترجمة ( فن الشعر ) لارسطو وشروحه التي قدمها ابن سينا والفارابي وابن رشد، وهو ما يصرح به حازم مشيرا إلى اختلاف طبيعة الشعر اليوناني عن الشعر العربي.
ولفهم هذه القضية نقرأ نص حازم في تعريف الشعر ؛ حيث يقول : (( الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قُصِدَ تحبيبه إليها، ويكرِّه إليها ما قُصِدَ تكريهه؛ لتُحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل ومحاكاة مستقلة بنفسها أو مقصورة بحسن هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب، فان الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخيالية قوي انفعالها وتأثرها )).
نستخلص من هذا التعريف امور منها :
1-  ان أول ما يميز الشعر انه (( كلام موزون مقفى )) ويذكرنا هذا بتعريف قدامة بن جعفر في مطلع القرن الرابع الهجري، غير ان حازم يحال أن يعرف الشعر تعريفا آخر غير ما ذكره قدامة .
2-  إن قصد الشاعر الذي يدفع إلى انشائه الشعر إنما هو إحداث انفعال في نفس المتلقي، يحبب إليه شيئا أو يكره إليه شيئا. فهنا يشير إلى قصدية الشاعر في التهيؤ للابداع، والذي يجعل المتلقي يحب أو يكره يسمى ( التخييل ).
3-  إن الوسيط الذي يجعل الشعر قادرا على أن يحبب شيئا إلى النفس أو يكرهه إليها هو ( حسن التخييل والمحاكاة ) والمحاكاة قد تكون قائمة بذاتها ، وقد يصورها حُسن تأليف الكلام، أو قوة صدقه، أوقوة شهرته، أو مجموع ذلك .
التخييل :
وفيه يقول حازم في تعريفه للشعر: (( الشعر كلام مخيل موزون، مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك ....)).
ومراد حازم من الخييل أن تتمثل لخيال السامع الشعر، بتأثير ألفاظ الشعر أومعانيه أو اسلوبه صورة ينفعل لها انفعالا نفسانيا فيُّسَّرُ لأمر الذي يصوره الشعر أو يستاء منه، أما كيفية حصول التخييل لنفس المتلقي فيشير حازم إلى سبع منها :
1-  أن تتمثل للذهن صورة شيء من طريق الفكر والخاطر .
2-  أن يشاهد الانسان شيئا فيذكره ذلك بشيء آخر .
3-  أن يحاكي للنفس بطريق النحت أو الرسم أو ما جرى مجراهما .
4-  أن يحاكي للنفس صوت الشيء أو فعله أو هيئته بما يشبه ذلك من صوت أو فعل أو هيئة .
5-  أن يحاكي للنفس معنى من المعاني بقول يخيله لها، وهذا هو المقصود من الصنعة الشعرية .
6-  أن يرسم القول المخيل كتابة .
7-  أن تفهم النفس الأمر الخيل من خلال الاشارة .
المحاكاة :
في اللغة : (( حكى فعله، وحاكاه إذا فعل مثل فعله، والمحاكاة المشاكلة ، وهي تعني التقليد والمشابهة)). وقد أعطى حازم المحاكاة الحظ الأوفر في إحداث التخييل في نفس المتلقي؛ وقد أشار إلى عدة صور للمحاكاة، وبيَّن ان الذي يهم في درس الشعر إنما هو محاكاة معنى بقول يخيله وهذه هي المحاكاة التشبيهية المعتمدة في الصنعة الشعرية، وقد أفاض حازم في الحديث عنها وعن أقسامها تبعا لطبيعة المحاكي والمحاكى به وتبعا لاغراضها من حيث : محاكاة تحسين، محاكاة تقبيح، محاكاة مطابقة .

وبهذا يتضح ان حازم يعد من أنضج الذهنيات النقدية العربية التي وقفنا عندها، فقد حاول أن يكمل ما بدأه قدامة بن جعفر من وضع علم لجيد الشعر ورديئه؛ فضلا عن كونه ناقدا بلاغيا قدم صورة ( النقد البلاغي ) قلما نظفر بها عند غيره؛ منطلقا من تصور مفاده ان الشعر وسيلة للتأثير في النفوس وتحريكها نحو أمر من الامور قبولا أو رفضا. وبهذا يمثل ( المنهاج ) انجازا نقديا كبيرا شمل القدر الأكبر من كليات الصنعة الشعرية وجزئياتها .
هل أعجبك الموضوع ؟

تعليقات المدونة :